فصل: باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب تَخْفِيفِ الْإِمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود‏)‏ قال الكرماني‏:‏ الواو بمعنى مع كأنه قال باب التخفيف بحيث لا يفوقه شيء من الواجبات، فهو تفسير لقوله في الحديث ‏"‏ فليتجوز ‏"‏ لأنه لا يأمر بالتجوز المؤدي إلى فساد الصلاة، قال ابن المنير وتبعه ابن رشيد وغيره‏:‏ خص التخفيف في الترجمة بالقيام مع أن لفظ الحديث أعم حيث قال ‏"‏ فليتجوز ‏"‏ لأن الذي يطول في الغالب إنما هو القيام، وما عداه لا يشق إتمامه على أحد، وكأنه حمل حديث الباب على قصة معاذ، فإن الأمر بالتخفيف فيها مختص بالقراءة‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى بعض ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته، وأما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب لأن قصة معاذ كانت في العشاء وكان الإمام فيها معاذا وكانت في مسجد بني سلمة، وهذه كانت في الصبح وكانت في مسجد قباء، ووهم من فسر الإمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أبي بن كعب كما أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن من رواية عيسى بن جارية وهو بالجيم عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ كان أبي بن كعب يصلي بأهل قباء فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه ثم قال‏:‏ إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة ‏"‏ فأبان هذا الحديث أن المراد بقوله في حديث الباب ‏"‏ مما يطيل بنا فلان ‏"‏ أي في القراءة، واستفيد منه أيضا تسمية الإمام وبأي موضع كان‏.‏

وفي الطبراني من حديث عدي بن حاتم ‏"‏ من أمنا فليتم الركوع والسجود‏"‏‏.‏

وفي قول ابن المنير إن الركوع والسجود لا يشق إتمامهما نظر، فإنه إن أراد أقل ما يطلق عليه اسم تمام فذاك لا بد منه، وإن أراد غاية التمام فقد يشق، فسيأتي حديث البراء قريبا أنه صلى الله عليه وسلم كان قيامه وركوعه وسجوده قريبا من السواء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ سَمِعْتُ قَيْسًا قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا زهير‏)‏ هو ابن معاوية الجعفي، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وأبو مسعود هو الأنصاري البدري، والإسناد كله كوفيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا‏)‏ لم أقف على اسمه، ووهم من زعم أنه حزم بن أبي كعب لأن قصته كانت مع معاذ لا مع أبي بن كعب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني لأتأخر عن صلاة الغداة‏)‏ أي فلا أحضرها مع الجماعة لأجل التطويل‏.‏

وفي رواية ابن المبارك في الأحكام ‏"‏ والله إني لأتأخر ‏"‏ بزيادة القسم، وفيه جواز مثل ذلك لأنه لم ينكر عليه، وتقدم في كتاب العلم في ‏"‏ باب الغضب في العلم ‏"‏ بلفظ ‏"‏ إني لا أكاد أدرك الصلاة ‏"‏ وتقدم توجيهه‏.‏

ويحتمل أيضا أن يكون المراد أن الذي ألفه من تطويله اقتضى له أن يتشاغل عن المجيء في أول الوقت وثوقا بتطويله، بخلاف ما إذا لم يكن يطول فإنه كان يحتاج إلى المبادرة إليه أول الوقت، وكأنه يعتمد على تطويله فيتشاغل ببعض شغله ثم يتوجه فيصادف أنه تارة يدركه وتارة لا يدركه فلذلك قال ‏"‏ لا أكاد أدرك مما يطول بنا ‏"‏ أي بسبب تطويله‏.‏

واستدل به على تسمية الصبح بذلك، ووقع في رواية سفيان الآتية قريبا ‏"‏ عن الصلاة في الفجر ‏"‏ وإنما خصها بالذكر لأنها تطول فيها القراءة غالبا، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أشد‏)‏ بالنصب وهو نعت لمصدر محذوف أي غضبا أشد، وسببه إما لمخالفة الموعظة أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه، كذا قاله ابن دقيق العيد، وتعقبه تلميذه أبو الفتح اليعمري بأنه يتوقف على تقدم الإعلام بذلك، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ما ظهر من الغضب لإرادة الاهتمام بما يلقيه لأصحابه ليكونوا من سماعه على بال لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله‏.‏

وأقول‏:‏ هذا أحسن في الباعث على أصل إظهار الغضب، أما كونه أشد فالاحتمال الثاني أوجه ولا يرد عليه التعقب المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن منكم منفرين‏)‏ فيه تفسير للمراد بالفتنة في قوله في حديث معاذ ‏"‏ أفتان أنت ‏"‏ ويحتمل أن تكون قصة أبي هذه بعد قصة معاذ، فلهذا أتى بصيغة الجمع‏.‏

وفي قصة معاذ واجهه وحده بالخطاب، وكذا ذكر في هذا الغضب ولم يذكره في قصة معاذ، وبهذا يتوجه الاحتمال الأول لابن دقيق العيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأيكم ما صلى‏)‏ ما زائدة، ووقع في رواية سفيان ‏"‏ فمن أم الناس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليخفف‏)‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة لعادة آخرين‏.‏

قال‏:‏ وقول الفقهاء لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلا قلت‏:‏ وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ‏"‏ أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم ‏"‏ إسناده حسن وأصله في مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن فيهم‏)‏ في رواية سفيان ‏"‏ فإن خلفه ‏"‏ وهو تعليل الأمر المذكور، ومقتضاه أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضر التطويل، وقد قدمت ما يرد عليه في الباب الذي قبله من إمكان مجيء من يتصف بإحداها‏.‏

وقال اليعمري‏:‏ الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا‏.‏

قال‏:‏ وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق عملا بالغالب، لأنه لا يدري ما يطرأ عليه، وهنا كذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الضعيف والكبير‏)‏ كذا للأكثر، ووقع في رواية سفيان في العلم ‏"‏ فإن فيهم المريض والضعيف ‏"‏ وكأن المراد بالضعيف هنا المريض وهناك من يكون ضعيفا في خلقته كالنحيف والمسن، وسيأتي في الباب الذي بعده مزيد قول فيه‏.‏

*3*باب إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء‏)‏ يريد أن عموم الأمر بالتخفيف مختص بالأئمة، فأما المنفرد فلا حجر عليه في ذلك‏.‏

لكن اختلف فيما إذا أطال القراءة حتى خرج الوقت كما سنذكره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ مِنْهُمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن فيهم‏)‏ كذا للأكثر، وللكشميهني ‏"‏ فإن منهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الضعيف والسقيم‏)‏ المراد بالضعيف هنا ضعيف الخلقة وبالسقيم من به مرض، زاد مسلم من وجه آخر عن أبي الزناد ‏"‏ والصغير والكبير ‏"‏ وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص ‏"‏ والحامل والمرضع ‏"‏ وله من حديث عدي بن حاتم ‏"‏ والعابر السبيل ‏"‏ وقوله في حديث أبي مسعود الماضي ‏"‏ وذا الحاجة ‏"‏ وهي أشمل الأوصاف المذكورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليطول ما شاء‏)‏ ولمسلم ‏"‏ فليصل كيف شاء ‏"‏ أي مخففا أو مطولا واستدل به على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت، وهو المصحح عند بعض أصحابنا وفيه نظر، لأنه يعارضه عموم قوله في حديث أبي قتادة ‏"‏ إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ‏"‏ أخرجه مسلم، وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى، واستدل بعمومه أيضا على جواز تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين‏.‏

*3*باب مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّلَ

وَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ طَوَّلْتَ بِنَا يَا بُنَيَّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من شكا إمامه إذا طول‏)‏ فيه حديث أبي مسعود وهو ظاهر في الترجمة، وكذا حديث جابر، والتعليق عن أبي أسيد وهو الأنصاري وصله ابن أبي شيبة من رواية المنذر بن أبي أسيد قال ‏"‏ كان أبي يصلي خلفي، فربما قال‏:‏ يا بني طولت بنا اليوم ‏"‏ واستفيد منه تسمية الابن المذكور، وفيه حجة على من كره للرجل أن يؤم أباه كعطاء، ورأيت بخط البدر الزركشي أنه رأى في بعض نسخ البخاري ‏"‏ وكره عطاء أن يؤم الرجل أباه ‏"‏ فإن ثبت ذلك فقد وصل ابن أبي شيبة هذا التعليق، وكأن المنذر كان إماما راتبا في المسجد‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية المستملي ‏"‏ أبو أسيد ‏"‏ بفتح الهمزة والصواب الضم كما للباقين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ أَحْسِبُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ وَمِسْعَرٌ وَالشَّيْبَانِيُّ قَالَ عَمْرٌو وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَرَأَ مُعَاذٌ فِي الْعِشَاءِ بِالْبَقَرَةِ وَتَابَعَهُ الْأَعْمَشُ عَنْ مُحَارِبٍ

الشرح‏:‏

قوله في حديث محارب عن جابر ‏(‏أقبل رجل بناضحين‏)‏ الناضح بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة ما استعمل من الإبل في سقى النخل والزرع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد جنح الليل‏)‏ أي أقبل بظلمته، وهو يؤيد أن الصلاة المذكورة كانت العشاء كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسورة البقرة أو النساء‏)‏ زاد أبو داود الطيالسي عن شعبة شك محارب، وفي هذا رد على من زعم أن الشك فيه من جابر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلولا صليت‏)‏ أي فهلا صليت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنه يصلي وراءك‏)‏ تقدم شرحه في الباب الذي قبله فكان هذا هو الحامل لمن وحد بين القصتين، لكن في ثبوت هذه الزيادة في هذه القصة نظر، لقوله بعدها ‏(‏أحسب هذا في الحديث‏)‏ يعني هذه الجملة الأخيرة ‏"‏ فإنه يصلي الخ‏"‏، وقائل ذلك هو شعبة الراوي عن محارب، وقد رواه غير شعبة من أصحاب محارب عنه بدونها، وكذا أصحاب جابر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه سعيد بن مسروق‏)‏ هو والد سفيان الثوري، وروايته هذه وصلها أبو عوانة من طريق أبي الأحوص عنه، ومتابعة مسعر وصلها السراج من رواية أبي نعيم عنه، ومتابعة الشيباني وهو أبو إسحاق وصلها البزار من طريقه كلهم عن محارب، والمراد أنهم تابعوا شعبة عن محارب في أصل الحديث لا في جميع ألفاظه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عمرو‏)‏ هو ابن دينار وقد تقدمت روايته قبل ببابين، ورواية عبيد الله بن مقسم وصلها ابن خزيمة من رواية محمد بن عجلان عنه وهي عند أبي داود باختصار، ورواية أبي الزبير وصلها عبد الرزاق عن ابن جريج عنه وهي عند مسلم من طريق الليث عنه لكن لم يعين أن السورة البقرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتابعه الأعمش عن محارب‏)‏ أي تابع شعبة، وروايته عند النسائي من طريق محمد بن فضيل عن الأعمش عن محارب وأبي صالح كلاهما عن جابر بطوله وقال فيه ‏"‏ فيطول بهم معاذ ‏"‏ ولم يعين السورة‏.‏

*3*باب الْإِيجَازِ فِي الصَّلَاةِ وَإِكْمَالِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الإيجاز في الصلاة وإكمالها‏)‏ ثبتت هذه الترجمة عند المستملي وكريمة، وكذا ذكرها الإسماعيلي، وسقطت للباقين، وعلى تقدير سقوطها فمناسبة حديث أنس للترجمة من جهة أن من سلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في الإيجاز والإتمام لا يشكى منه تطويل، وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي مجلز قال ‏"‏ كانوا - أي الصحابة - يتمون ويوجزون ويبادرون الوسوسة ‏"‏ فبين العلة في تخفيفهم، ولهذا عقب المصنف هذه الترجمة بالإشارة إلى أن تخفيف النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهذا السبب لعصمته من الوسوسة بل كان يخفف عند حدوث أمر يقتضيه كبكاء صبي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِزُ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلُهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد العزيز‏)‏ هو ابن صهيب، والإسناد كله بصريون‏.‏

والمراد بالإيجاز مع الإكمال الإتيان بأقل ما يمكن من الأركان والأبعاض‏.‏

*3*باب مَنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ التراجم السابقة بالتخفيف تتعلق بحق المأمومين، وهذه الترجمة تتعلق بقدر زائد على ذلك وهو مصلحة غير المأموم، لكن حيث تتعلق بشيء يرجع إليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ تَابَعَهُ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَبَقِيَّةُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيى بن أبي كثير‏)‏ في رواية بشر بن بكر الآتية عن الأوزاعي ‏"‏ حدثني يحيى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن أبي قتادة‏)‏ في رواية ابن سماعة عن الأوزاعي عند الإسماعيلي ‏"‏ حدثني عبد الله ابن أبي قتادة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني لأقوم في الصلاة أريد‏)‏ في رواية بشر بن بكر ‏"‏ لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه بشر بن بكر‏)‏ هي موصولة عند المؤلف في ‏"‏ باب خروج النساء إلى المساجد ‏"‏ قبيل كتاب الجمعة، ومتابعة ابن المبارك وصلها النسائي، ومتابعة بقية وهو ابن الوليد لم أقف عليها، واستدل بهذا الحديث على جواز إدخال الصبيان المساجد، وفيه نظر لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفا في بيت يقرب من المسجد بحيث يسمع بكاؤه‏"‏‏.‏

وعلى جواز صلاة النساء في الجماعة مع الرجال، وفيه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومراعاة أحوال الكبير منهم والصغير‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني شريك بن عبد الله‏)‏ أي ابن أبي نمر، والإسناد كله مدنيون غير خالد فهو كوفي سكن المدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخف صلاة ولا أتم‏)‏ إلى هنا أخرج مسلم من هذا الحديث، من رواية إسماعيل بن جعفر عن شريك، ووافق سليمان بن بلال على تكلمته أبو ضمرة عند الإسماعيلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيخفف‏)‏ بين مسلم في رواية ثابت عن أنس محل التخفيف ولفظه ‏"‏ فيقرأ بالسورة القصيرة‏"‏، وبين ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن سابط مقدارها ولفظه ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة فسمع بكاء صبي فقرأ بالثانية بثلاث آيات ‏"‏ وهذا مرسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تفتن أمه‏)‏ أي تلتهي عن صلاتها لاشتغال قلبها ببكائه، زاد عبد الرزاق من مرسل عطاء ‏"‏ أو تتركه فيضيع‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سعيد‏)‏ هو ابن أبي عروبة، والإسناد كله بصريون، وكذا ما بعده موصولا ومعلقا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنا أريد إطالتها‏)‏ فيه أن من قصد في الصلاة الإتيان بشيء مستحب لا يجب عليه الوفاء به خلافا لأشهب حيث ذهب إلى أن من نوى التطوع قائما ليس له أن يتمه جالسا‏.‏

قوله في رواية ابن أبي عدي ‏(‏مما أعلم‏)‏ وفي رواية الكشميهني ‏"‏ لما أعلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجد أمه‏)‏ أي حزنها‏.‏

قال صاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏ وجد يجد وجدا - بالسكون والتحريك - حزن، وكأن ذكر الأم هنا خرج مخرج الغالب، وإلا فمن كان في معناها ملتحق بها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ فَأُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال موسى‏)‏ أي ابن إسماعيل وهو أبو سلمة التبوذكي، وأبان هذا ابن يزيد العطار، والمراد بهذا بيان سماع قتادة له من أنس، وروايته هذه وصلها السراج عن عبيد الله بن جرير وابن المنذر عن محمد ابن إسماعيل كلاهما عن أبي سلمة‏.‏

ووقع التصريح أيضا عند الإسماعيلي من رواية خالد بن الحارث عن سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك حدثه‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ احتج به من قال يجوز للإمام إطالة الركوع إذا سمع بحس داخل ليدركه، وتعقبه ابن المنير بأن التخفيف نقيض التطويل فكيف يقاس عليه‏؟‏ قال‏:‏ ثم إن فيه مغايرة للمطلوب، لأن فيه إدخال مشقة على جماعة لأجل واحد‏.‏

انتهى‏.‏

ويمكن أن يقال‏:‏ محل ذلك ما لم يشق على الجماعة، وبذلك قيده أحمد وإسحاق وأبو ثور، وما ذكره ابن بطال سبقه إليه الخطابي، ووجهه بأنه إذا جاز التخفيف لحاجة من حاجات الدنيا كان التطويل لحاجة من حاجات الدين أجوز، وتعقبه القرطبي بأن في التطويل هنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب، بخلاف التخفيف فإنه مطلوب، انتهى‏.‏

وفي هذه المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل، وأطلق النووي عن المذهب استحباب ذلك، وفي التجريد للمحاملي نقل كراهيته عن الجديد، وبه قال الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ أخشى أن يكون شركا‏.‏

*3*باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا صلى ثم أم قوما‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم يذكر جواب إذا جريا على عادته في ترك الجزم بالحكم المختلف فيه، وقد تقدم البحث في ذلك قريبا

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ

الشرح‏:‏

تقدم الحديث من وجه آخر عن عمرو‏.‏

*3*باب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أسمع الناس تكبير الإمام‏)‏ تقدم الكلام على حديث عائشة في ‏"‏ باب حد المريض أن يشهد الجماعة ‏"‏ والشاهد فيه قوله ‏"‏ وأبو بكر يسمع الناس التكبير ‏"‏ وهذه اللفظة مفسرة عند الجمهور للمراد بقوله في الرواية الماضية ‏"‏ وكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر ‏"‏ وقد ذكر البخاري أن محاضرا تابع عبد الله بن داود على ذلك، وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي بعده، قال ابن مالك‏:‏ ووقع في بعض الروايات هنا ‏"‏ إن يقم مقامك يبكي، ومروا أبا بكر يصلي ‏"‏ بإثبات الياء فيهما، وهو من قبيل إجراء المعتل لمجرى الصحيح والاكتفاء بحذف الحركة ومنه قراءة من قرأ ‏(‏إنه من يتقي ويصبر‏)‏ ‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ سقط في رواية أبي زيد المروزي من هذا الإسناد ‏"‏ إبراهيم ‏"‏ ولا بد منه‏.‏

*3*باب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ

وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضا خلافا للجمهور، قلت‏:‏ وليس المراد أنهم يأتمون بهم في التبليغ فقط كما فهمه بعضهم بل الخلاف معنوي، لأن الشعبي قال فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رءوسهم من الركعة‏:‏ إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك، لأن بعضهم لبعض أئمة‏.‏

انتهى‏.‏

فهذا يدل على أنه يرى أنهم يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام، وأثر الشعبي الأول وصله عبد الرزاق، والثاني وصله ابن أبي شيبة، ولم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة لأنه بدأ بالترجمة الدالة على أن المراد بقوله ‏"‏ ويأتم الناس بأبي بكر ‏"‏ أي أنه في مقام المبلغ، ثم ثنى بهذه الرواية التي أطلق فيها اقتداء الناس بأبي بكر، ورشح ظاهرها‏.‏

بظاهر الحديث المعلق، فيحتمل أن يكون يذهب إلى قول الشعبي ويرى أن قوله في الرواية الأولى ‏"‏ يسمع الناس التكبير ‏"‏ لا ينفي كونهم يأتمون به لأن إسماعه لهم التكبير جزء من أجزاء ما يأتمون به فيه، وليس فيه نفي لغيره‏.‏

ويؤيد ذلك رواية الإسماعيلي من طريق عبد الله بن داود المذكور ووكيع جميعا عن الأعمش بهذا الإسناد قال فيه ‏"‏ والناس يأتمون بأبي بكر وأبو بكر يسمعهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري قال ‏"‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرا فقال‏:‏ تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم ‏"‏ الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية أبي نضرة عنه‏.‏

قيل‏:‏ وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن أبا نضرة ليس على شرطه لضعف فيه، وهذا عندي ليس بصواب، لأنه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به، بل قد يكون صالحا للاحتجاج به عنده وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحة‏.‏

والحق أن هذه الصيغة لا تختص بالضعيف بل قد تستعمل في الصحيح أيضا‏.‏

بخلاف صيغة الجزم فإنها لا تستعمل إلا في الصحيح، وظاهره يدل لمذهب الشعبي‏.‏

وأجاب النووي بأن معنى ‏"‏ وليأتم بكم من بعدكم ‏"‏ أي يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم، قال‏:‏ وفيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أو صف قدامه يراه متابعا للإمام، وقيل‏:‏ معناه تعلموا مني أحكام الشريعة وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِلَالٌ يُؤذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى مَا يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ قَالَ إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَرِجْلَاهُ يَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَأَخَّرُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏مروا أبا بكر يصلي‏)‏ كذا فيه بإثبات الياء، وقد تقدم توجيه ابن مالك له‏.‏

ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ أن يصلي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏متى يقوم‏)‏ كذا وقع للأكثر في الموضعين بإثبات الواو، ووجهه ابن مالك بأنه شبه متى بإذا فلم تجزم، كما شبه إذا بمتى في قوله ‏"‏ إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعا وثلاثين ‏"‏ فحذف النون‏.‏

ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ متى ما يقم ‏"‏ ولا إشكال فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تخطان الأرض‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يخطان في الأرض‏"‏‏.‏

وقد تقدمت بقية مباحث الحديث في ‏"‏ باب حد المريض ‏"‏ وقوله في السند ‏"‏ الأعمش عن إبراهيم عن الأسود ‏"‏ كذا للجميع وهو الصواب، وسقط إبراهيم بين الأعمش والأسود من رواية أبي المروزي وهو وهم قاله الجياني‏.‏

*3*باب هَلْ يَأْخُذُ الْإِمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس‏)‏ أورد فيه قصة ذي اليدين في السهو، وسيأتي الكلام عليها في موضعه‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ أراد أن محل الخلاف في هذه المسألة هو ما إذا كان الإمام شاكا، أما إذا كان على يقين من فعل نفسه فلا خلاف أنه لا يرجع إلى أحد‏.‏

انتهى‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم شك بأخبار ذي اليدين فسألهم إرادة تيقن أحد الأمرين، فلما صدقوا ذا اليدين علم صحة قوله، قال‏:‏ وهذا الذي أراد البخاري بتبويبه‏.‏

وقال ابن بطال بعد أن حكى الخلاف في هذه المسألة‏:‏ حمل الشافعي رجوعه عليه الصلاة والسلام على أنه تذكر فذكر، وفيه نظر، لأنه لو كان كذلك لبينه لهم ليرتفع اللبس، ولو بينه لنقل، ومن ادعى ذلك فليذكره‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكره أبو داود من طريق الأوزاعي عن الزهري عن سعيد وعبيد الله عن أبي هريرة بهذه القصة قال ‏"‏ ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك‏"‏‏.‏

*3*باب إِذَا بَكَى الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا بكى الإمام في الصلاة‏)‏ أي هل تفسد أو لا‏؟‏ والأثر والخبر اللذان في الباب يدلان على الجواز، وعن الشعبي والنخعي والثوري أن البكاء والأنين يفسد الصلاة‏.‏

وعن المالكية والحنفية إن كان لذكر النار والخوف لم يفسد، وفي مذهب الشافعي ثلاثة أوجه أصحها إن ظهر منه حرفان أفسد وإلا فلا‏.‏

ثانيها وحكى عن نصه في الإملاء أنه لا يفسد مطلقا لأنه ليس من جنس الكلام ولا يكاد يبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل‏.‏

ثالثها عن القفال إن كان فمه مطبقا لم يفسد وإلا أفسد إن ظهر منه حرفان، وبه قطع المتولي‏.‏

والوجه الثاني أقوى دليلا‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ أطلق جماعة التسوية بين الضحك والبكاء‏.‏

وقال المتولي‏:‏ لعل الأظهر في الضحك البطلان مطلقا لما فيه من هتك حرمة الصلاة، وهذا أقوى من حيث المعنى، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبد الله بن شداد‏)‏ أي ابن الهاد، وهو تابعي كبير له رؤية ولأبيه صحبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت نشيج عمر‏)‏ النشيج - بفتح النون وكسر المعجمة وآخره جيم - قال ابن فارس‏:‏ نشج الباكي ينشج نشيجا إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب‏.‏

وقال الهروي‏:‏ النشيج صوت معه ترجيع كما يردد الصبي بكاءه في صدره‏.‏

وفي ‏"‏ المحكم ‏"‏‏:‏ هو أشد البكاء‏.‏

وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد سمع عبد الله بن شداد بهذا وزاد ‏"‏ في صلاة الصبح‏"‏‏.‏

وأخرجه ابن المنذر من طريق عبيد بن عمير عن عمر نحوه، وقد تقدم الكلام على حديث أبي بكر وقوله فيه ‏"‏ من البكاء ‏"‏ أي لأجل البكاء‏.‏

وفي الباب حديث عبد الله بن الشخير ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ‏"‏ رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل وإسناده قوى، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووهم من زعم أن مسلما أخرجه‏.‏

والمرجل بكسر الميم وفتح الجيم القدر إذا غلت‏.‏

والأزيز بفتح الهمزة بعدها زاي ثم تحتانية ساكنة ثم زاي أيضا وهو صوت القدر إذا غلت، وفي لفظ ‏"‏ كأزيز الرحى‏"‏‏.‏

*3*باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها‏)‏ ليس في حديثي الباب دلالة على تقييد التسوية بما ذكر، لكن أشار بذلك إلى ما في بعض الطرق كعادته، ففي حديث النعمان عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك عندما كاد أن يكبر، وفي حديث أنس في الباب الذي بعد هذا ‏"‏ أقيمت الصلاة فأقبل علينا فقال‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏لتسون‏)‏ بضم التاء المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون، وللمستملى ‏"‏ لتسوون ‏"‏ بواوين‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم هنا مقدر ولهذا أكده بالنون المشددة‏.‏

انتهى‏.‏

وسيأتي من رواية أبي داود قريبا إبراز القسم في هذا الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو ليخالفن الله بين وجوهكم‏)‏ أي إن لم تسووا، والمراد بتسوية الصفوف اعتدال‏.‏

القائمين بها على سمت واحد، أو يراد بها سد الخلل الذي في الصف كما سيأتي‏.‏

واختلف في الوعيد المذكور فقيل‏:‏ هو على حقيقته والمراد تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه يجعله موضع القفا أو نحو ذلك، فهو نظير ما تقدم من الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية وهي المخالفة، وعلى هذا فهو واجب، والتفريط فيه حرام، وسيأتي البحث في ذلك في ‏"‏ باب إثم من لم يتم الصفوف ‏"‏ قريبا، ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة ‏"‏ لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه ‏"‏ أخرجه أحمد وفي إسناده ضعف، ولهذا قال ابن الجوزي‏:‏ الظاهر أنه مثل الوعيد المذكور في قوله تعالى ‏(‏من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها‏)‏ ، وحديث أبي أمامة أخرجه أحمد وفي إسناده ضعف، ومنهم من حمله على المجاز، قال النووي‏:‏ معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول‏:‏ تغير وجه فلان علي، أي ظهر لي من وجهه كراهية، لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن‏.‏

ويؤيده رواية أبي داود وغيره بلفظ أو ليخالفن الله بين قلوبكم كما سيأتي قريبا‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجها غير الذي أخذ صاحبه، لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطيعة‏.‏

والحاصل أن المراد بالوجه إن حمل على العضو المخصوص فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية أو الصفة أو جعل القدام وراء، وإن حمل على ذات الشخص فالمخالفة بحسب المقاصد‏.‏

أشار إلى ذلك الكرماني‏.‏

ويحتمل أن يراد بالمخالفة في الجزاء فيجازي المسوى بخير ومن لا يسوى بشر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي

الشرح‏:‏

قوله في حديث أنس ‏(‏أقيموا‏)‏ أي عدلوا، يقال أقام العود إذا عدله وسواه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإني أراكم‏)‏ فيه إشارة إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك لأني تحققت منكم خلافه‏.‏

وقد تقدم القول في المراد بهذه الرواية في ‏"‏ باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة ‏"‏ وأن المختار حملها على الحقيقة خلافا لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروري له بذلك‏.‏

ونحو ذلك قال الزين بن المنير لا حاجة إلى تأويلها لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ بل حملها على ظاهرها أولى لأن فيه زيادة في كرامة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

*3*باب إِقْبَالِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف‏)‏ أورد فيه حديث أنس الذي في الباب قبله، وقد تقدم الكلام عليه فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا معاوية بن عمرو‏)‏ هو من قدماء شيوخ البخاري، وروى له هنا بواسطة، فكأنه لم يسمعه منه وإنما نزل فيه لما وقع في الإسناد من تصريح حميد بتحديث أنس له فأمن بذلك تدليسه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتراصوا‏)‏ بتشديد الصاد المهملة أي تلاصقوا بغير خلل، ويحتمل أن يكون تأكيدا لقوله أقيموا، والمراد بأقيموا سووا كما وقع في رواية معمر عن حميد عند الإسماعيلي بدل أقيموا واعتدلوا، وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، وقد تقدم في باب مفرد، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة‏.‏

*3*باب الصَّفِّ الْأَوَّلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصف الأول‏)‏ والمراد به ما يلي الإمام مطلقا، وقيل أول صف تام يلي الإمام، لا ما تخلله شيء كمقصورة‏.‏

وقيل المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف قاله ابن عبد البر واحتج بالاتفاق على أن من جاء أول الوقت ولم يدخل في الصف الأول فهو أفضل ممن جاء في آخره وزاحم إليه، ولا حجة له في ذلك كما لا يخفى‏.‏

قال النووي‏:‏ القول الأول هو الصحيح المختار وبه صرح المحققون، والقولان الآخران غلط صريح‏.‏

انتهى‏.‏

وكأن صاحب القول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الكامل، وما فيه خلل فهو ناقص، وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه، وإلى الأول أشار البخاري لأنه ترجم بالصف الأول وحديث الباب فيه الصف المقدم وهو الذي لا يتقدمه إلا الإمام، قال العلماء‏:‏ في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين‏.‏

*3*باب إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إقامة الصف من تمام الصلاة‏)‏ أورد فيه حديث أبي هريرة ‏"‏ إنما جعل الإمام ليؤتم به ‏"‏ وسيأتي الكلام عليه في ‏"‏ باب إيجاب التكبير ‏"‏ قريبا وفي آخره هنا ‏"‏ وأقيموا الصفوف الخ ‏"‏ وهو المقصود بهذه الترجمة، وقد أفرده مسلم وأحمد وغيرهما من طريق عبد الرزاق المذكورة عما قبله فجعلوه حديثين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏من حسن الصلاة‏)‏ قال ابن رشيد‏:‏ إنما قال البخاري في الترجمة ‏"‏ من تمام الصلاة ‏"‏ ولفظ الحديث ‏"‏ من حسن الصلاة ‏"‏ لأنه أراد أن يبين أنه المراد بالحسن هنا، وأنه لا يعني به الظاهر المرئي من الترتيب، بل المقصود منه الحسن الحكمي بدليل حديث أنس وهو الثاني من حديثى الباب حيث عبر بقوله ‏"‏ من إقامة الصلاة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ

الشرح‏:‏

قوله في حديث أنس ‏(‏فإن تسوية الصفوف‏)‏ وفي رواية الأصيلي ‏"‏ الصف ‏"‏ بالإفراد، والمراد به الجنس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من إقامة الصلاة‏)‏ هكذا ذكره البخاري عن أبي الوليد، وذكره غيره عنه بلفظ ‏"‏ من تمام الصلاة ‏"‏ كذلك أخرجه الإسماعيلي عن ابن حذيفة صلى الله عليه وسلم والبيهقي من طريق عثمان الدارمي كلاهما عنه، وكذلك أخرجه أبو داود عن أبي الوليد وغيره، وكذا مسلم وغيره من طريق جماعة عن شعبة، وزاد الإسماعيلي من طريق أبي داود الطيالسي قال ‏"‏ سمعت شعبة يقول‏:‏ داهنت في هذا الحديث لم أسأل قتادة أسمعته من أنس أم لا‏؟‏ انتهى‏.‏

ولم أره عن قتادة إلا معنعنا، ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث أبي هريرة معه في الباب تقوية له‏.‏

واستدل ابن حزم بقوله ‏"‏ إقامة الصلاة ‏"‏ على وجوب تسوية الصفوف قال‏:‏ لأن إقامة الصلاة واجبة‏.‏

وكل شيء من الواجب واجب، ولا يخفى ما فيه، ولا سيما وقد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة‏.‏

وتمسك ابن بطال بظاهر لفظ حديث أبي هريرة فاستدل به على أن التسوية سنة قال‏:‏ لأن حسن الشيء زيادة على تمامه، وأورد عليه رواية ‏"‏ من تمام الصلاة‏"‏‏.‏

وأجاب ابن دقيق العيد فقال‏:‏ قد يؤخذ من قوله تمام الصلاة الاستحباب لأن تمام الشيء في العرف أمر زائد على حقيقته التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به، كذا قال، وهذا الأخذ بعيد لأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لفظ الترجمة أورده عبد الرزاق من حديث جابر‏.‏

*3*باب إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إثم من لم يتم الصفوف‏)‏ قال ابن رشيد‏:‏ أورد فيه حديث أنس ‏"‏ ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف ‏"‏ وتعقب بأن الإنكار قد يقع على ترك السنة فلا يدل ذلك على حصول الإثم، وأجيب بأنه لعله حمل الأمر في قوله تعالى ‏(‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره‏)‏ على أن المراد بالأمر الشأن والحال لا مجرد الصيغة، فيلزم منه أن من خالف شيئا من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم أن يأثم لما يدل عليه الوعيد المذكور في الآية، وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم‏.‏

انتهى كلام ابن رشيد ملخصا‏.‏

وهو ضعيف لأنه يفضي إلى أن لا يبقى شيء مسنون، لأن التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب‏.‏

وأما قول ابن بطال‏:‏ إن تسوية الصفوف لما كانت من السنن المندوب إليها التي يستحق فاعلها المدح عليها دل على أن تاركها يستحق الذم، فهو متعقب من جهة أنه لا يلزم من ذم تارك السنة أن يكون آثما‏.‏

سلمنا، لكن يرد عليه التعقب الذي قبله‏.‏

ويحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله ‏"‏ سووا صفوفكم ‏"‏ ومن عموم قوله ‏"‏ صلوا كما رأيتموني أصلي ‏"‏ ومن ورود الوعيد على تركه، فرجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة‏.‏

وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان، ونازع من ادعى الإجماع على عدم الوجوب بما صح عن عمر أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف، وبما صح عن سويد بن غفلة قال ‏"‏ كان بلال يسوي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصلاة ‏"‏ فقال‏:‏ ما كان عمر وبلال يضربان أحدا على ترك غير الواجب وفيه نظر، لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ قَدِمَ عَلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْمَدِينَةَ بِهَذَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بشير‏)‏ هو بالمعجمة مصغر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أنكرت منذ يوم عهدت‏)‏ في رواية المستملي والكشميهني ‏"‏ ما أنكرت منا منذ عهدت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عقبة بن عبيد‏)‏ هو أبو الرحال بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة وهو أخو سعيد بن عبيد راوي الإسناد الذي قبله، وليس لعقبة في البخاري إلا هذا الموضع المعلق، وأراد به بيان سماع بشير بن يسار له من أنس، وقد وصله أحمد في مسنده عن يحيى القطان عن عقبة بن عبيد الطائي ‏"‏ حدثني بشير بن يسار قال‏:‏ جاء أنس إلى المدينة فقلنا ما أنكرت منا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ ما أنكرت منكم شيئا غير أنكم لا تقيمون الصفوف‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هذه القدمة لأنس غير القدمة التي تقدم ذكرها في ‏"‏ باب وقت العصر‏"‏، فإن ظاهر الحديث فيها أنه أنكر تأخير الظهر إلى أول وقت العصر كما مضى، وهذا الإنكار أيضا غير الإنكار الذي تقدم ذكره في ‏"‏ باب تضييع الصلاة عن وقتها ‏"‏ حيث قال ‏"‏ لا أعرف شيئا مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة وقد ضيعت ‏"‏ فإن ذاك كان بالشام وهذا بالمدينة، وهذا يدل على أن أهل المدينة كانوا في ذلك الزمان أمثل من غيرهم في التمسك بالسنن‏.‏